معرفة

عصر الفوضى: هكذا خدع محمد علي باشا الجميع

من اليتم والأمية و«ظل اليهودي» إلى حكم مصر، كيف خطط محمد علي لحكم مصر؟ قراءة مختلفة بالوثائق لمرحلة مفصلية في تاريخ مصر الحديث.

future محمد علي باشا

رغم قصر فترة عصر الفوضى التي لا تتعدى 4 سنوات (1801 - 1805)، لكنها اكتظت بتحولات درامية كثيرة، تمخض عن تأسيس الدولة المصرية الحديثة. لهذا تعد تلك الفترة شديدة الأهمية للمهتمين بفهم أسباب التحولات التاريخية، ومع ذلك فقد نالت اهتمامًا أقل من العصور الأخرى.

يوثق كتاب «رؤية الوثائق العثمانية: ولاية محمد علي باشا على مصر عام 1805» للمؤرخ التركي، أتيلا جتين، لتحولات عصر الفوضى معتمدًا على 170 وثيقة تاريخية من الأرشيف العثماني استطاع الوصول إليها، ويقارنها بالمصادر التاريخية الأخرى.

تُقدِّم لنا تلك الوثائق قراءة مختلفة تمامًا لمرحلة مفصلية في التاريخ المصري الحديث؛ فالرواية الشائعة أن محمد علي هو أول حاكم يختاره الشعب المصري بإرادته، لكن التدقيق في الأحداث وخلفياتها يُرجِّح عكس ذلك.

حياة متواضعة في قوله

غالبًا ما تناولت كتب التاريخ محمد علي كحاكم وقائد حربي، وقليلًا ما تطرقت إلى ظروف نشأته والأفكار التي صنعت شخصيته في الطفولة والمراهقة، رغم أنه ربما يكون أهم شخصية في التاريخ المصري الحديث، ومن أهم الشخصيات التي أثرت في السياسة الدولية في عصره، وامتد تأثيره إلى ما بعده بزمن طويل.

وُلد محمد علي عام 1769 في مدينة قوله الساحلية اليونانية جنوب شرقي أوروبا، وكان والده يعمل رئيسًا للحراس بهذه المدينة الصغيرة، ونشأ يتيمًا بعدما توفي والده وكذلك كل إخوته، فرباه عمه طوسون الذي لم يلبث أن قُتل أيضًا على يد الدولة، تاركًا ابن أخيه وحيدًا في الدنيا.

لم ينل حظه من التعليم، بل نشأ أميًّا لا يعرف القراءة والكتابة، ولا يملك مالًا ولا قوامًا من عيش، فانطلق يعمل ساعي بريد، ثم سمسارًا، ثم تعرّف على تاجر الدخان اليهودي الفرنسي، ليون Monsieur Leon، الذي قدّر ذكاءه وبذل جهدًا في تعليمه، وعرفه الكثير عن الغرب، وكان له تأثير واضح على شخصيته ظل ملازمًا له بعد ذلك.

دخل محمد علي الخدمة العسكرية في عمر 18 عامًا، وأصبح رئيس فرقة -بلوكباشي- في سن الـ20، ثم قضى حياته في مدينة صغيرة (قوله) تضيق بطموحاته ومهاراته وإمكانياته، إلى أن بلغ الـ32.

سرششمة الأرناؤوط

بينما كان محمد علي يقضي حياته على هذا النحو في قوله، فتح احتلال الفرنسيين لمصر أفقًا جديدًا في حياته؛ فقد أرسل السلطان العثماني أوامر إلى مناطق الإمبراطورية المختلفة بجمع العساكر وإرسالها إلى مصر لإخراج الحملة الفرنسية، فقرّر القائد العسكري في قوله، حسين آغا، تجهيز فرقةٍ عسكرية، من 200 إلى 300 شخص، وعيّن ابنه علي آغا قائدًا عليها، وكان مساعده محمد علي.

انضمت الفرقة لقوات أخرى تحت قيادة كوسه باهر مصطفى باشا، تضم كل عساكر الباشى بوزوق أو باشبوزق؛ أي القوات غير النظامية المحترفة، ووصلت إلى الإسكندرية في يونيو/حزيران 1799، فانهزمت على يد نابليون بونابرت، وسقط قائدها أسيرًا لدى الفرنسيين، وظلت المواجهات تتكرر بين العثمانيين والفرنسيين حتى رحل الأخيرون عام 1801.

أصبح محمد علي قائدًا على عساكر قوله في مصر بعد غياب قائدها، وبدأ يتقرّب إلى القبطان العثماني، كوجوك حسين باشا، بواسطة من ضابط مساعد له، وسرعان ما عينه القبطان في وظيفة سرچشمه أو سرششمة أي قائد عساكر الباشبوزق المسؤول عن رواتبهم وتعييناتهم، وبدأت شهرة محمد علي تنتشر بين العساكر، بمواقفه وتحركاته، ونجح في كسب ثقة وولاء كافة عساكر الباشبوزق الأرناؤوط الألبان إلى جانبه.

بعد خروج القبطان العثماني من مصر، أصبح محمد علي من كبار زعماء العساكر العثمانيين، ويتضح من سير الأحداث أن القبطان ظل يحميه حتى بعد مغادرته مصر، مما ساعده في مواصلة التخطيط والعمل بشكل سري نحو هدفه المتمثل في السيطرة على حكم مصر.

الإطاحة بالوالي

سعى محمد علي إلى تقوية مركزه بشكل مستقل، وفي إحدى المعارك ضد المماليك تخلى عن مناصرة قوات الوالي العثماني، خسرو باشا، مما أدى إلى هزيمتها، وحينها شكا قائد القوات للوالي، فأخذ محمد علي حذره من خسرو باشا وقرر مبادأته بالهجوم قبل أن يعاقبه، فحرض عساكر الباشبوزق ضده بحجة تأخر رواتبهم، ولم يكن الوالي مدركًا خطورة الأمر فلم يستدع قوات المشاة الانكشارية الموالية له في القلعة، فباغته محمد علي بالباشبوزق، فهجموا عليه وشتّتوا شمل أتباعه، ففر منهم إلى المنصورة، فبعث إليه محمد علي منْ يتعقبه، ثم هرب إلى دمياط وتحصن بها.

والمثير أن كل هذه الأحداث نُسبت في حينها إلى طاهر باشا، زعيم الباشبوزق، فكان هو الظاهر في الصورة بينما نائبه محمد علي هو المتحكم الحقيقي في الأمر. واتفق محمد علي مع المماليك على القبض على خسرو باشا الموجود في دمياط؛ لأنه يمثل تهديدًا لمصر، فساروا إلى دمياط، وقبضوا على خسرو باشا، وحبسوه في قلعة القاهرة.

مقتل طاهر باشا وطرد أحمد باشا

بعد الإطاحة بالوالي تم الفتك بالمقربين منه، وعُوملت قوات الانكشارية بشكل سيئ، فكانت العطاءات توزع على الباشبوزق فقط، مما أثار غضب الانكشارية، وتجددت مشكلة الرواتب من جديد، فذهبوا إلى طاهر باشا ليشكوا له حالهم فرد عليهم بأنه لن يعطيهم أي شيء، فقتلوه.

ورغم عدم وجود دليل واضح على تورط محمد علي في تحريض الانكشارية ضد سيده، فإن اتهامات المؤرخين ظلت تلاحقه بأنه وقف وراء الحادث، ويعزز تلك الاتهامات أنه كان المستفيد من الحادث الذي أزاح رئيسه عن المشهد وأصبح الشخصية رقم واحد دون أن تتلطخ يداه بدمه، كما أن طاهر باشا أُطيح به بالطريقة نفسها التي أزاح بها محمد علي منافسيه؛ أي بتسليط الآخرين عليه ليطالبوه بالرواتب المتأخرة.

تصادف أن زار مصر في تلك الأثناء أحمد باشا، وهو قائد عثماني كان ذاهبًا إلى الحجاز، لكن بسبب اضطراب الأوضاع في مصر وفراغ القيادة، بايعه الناس بالولاية، فرفض محمد علي مبايعته لأنه يعرف قوة أتباعه الانكشارية، وعرف أنهم إذا ثبّتوا قدمهم في مصر فلن يستطيع الاستقرار فيها، فتحالف مع المماليك وأحضرهم إلى القاهرة، وتمكن من إخراج أحمد باشا من مصر، بعد معركة دامية شتت فيها شمل قواته الانكشارية.

وعقب ذلك انضم كبار موظفي الدولة، كالدفتردار والكتخدا، إلى محمد علي، رغم أنهما كانا غير راضين عن سياسته، فرحب بهما وأكرمهما ثم قتلهما جنوده بعد أيام لعدم وثوقه بولائهما.

التحالف مع المماليك والإطاحة بالوالي الثاني

سلّم محمد علي القلعة للمماليك، وأصبحت القوة في أيديهم ظاهريًا، وأظهر إخلاصه الشديد للزعيم المملوكي، عثمان بك البرديسي، فأصبح يعتمد عليه ويشاوره في كل شيء، وكان قد اقترب من القائد المملوكي، إبراهيم بك، قبله لكنه وجده محتاطًا وكتومًا، فتحول للبرديسي، فوثق فيه للغاية، واستطاع وضع البرديسي تحت رقابته، واعتبر الأخير عساكر محمد علي عساكره.

ولمّا رأى السلطان العثماني عجزه عن التحكم في الوضع في مصر بسبب عصيان الباشبوزق، قرر الاستعانة بقادة من بلادهم ليؤثروا عليهم، فأرسل بعض الولاة رسائل للباشبوزق يأمرونهم بطاعة السلطان دون جدوى.

عيّن السلطان، علي باشا الطرابلسي، واليًا على مصر، وكان له خبرة بأمورها، فراسله محمد علي وطالبه بالحضور إلى القاهرة لتولي الحكم، ولمّا استجاب له أوعز للمماليك فقتلوه في الطريق، دون أن يظهر في الصورة كالعادة وتبرأت قواته من الواقعة.

أثبت كاتب الوقائع العثماني جودت باشا، الدور الذي كان يلعبه محمد علي من وراء الستار، وكذلك المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي، الذي قال:

«كان في ذهن محمد علي منذ فترة طويلة أن يصبح واليًا مستقلًا في مصر، لكن لم يقذف نفسه مثل طاهر باشا فجأة في الوسط، فكان عليه أولًا أن يتخلّص من الصعوبات المحتمل وقوعها واحدة إثر واحدة؛ حتى لا يقع في الخطر في النهاية، فكان يريد أن يُؤمِّن قدمه ويُثبِّتها جيدًا؛ في سبيل الأمل الذي يسعى خلفه، فكان يتحرك بحرص شديد واحتياط كبير».

مذبحة المماليك الأولى

نتيجة تعاون محمد علي مع المماليك، أمنوا جانبه، ولم يُدخلوا جميع قواتهم إلى القاهرة لكسرِ قوّته للانفراد بالحكم، بل هو الذي أخذ في ضرب المماليك بعضهم ببعض لإضعافهم، وتحالف مع الثنائي البرديسي وإبراهيم ضد الزعيم المملوكي، الألفي بك، وهكذا ظل يسير نحو هدفه بطرق غير مباشرة، وبمكر شديد.

وكان البرديسي بعيدًا جدًا عن فهم مثل هذه التدابير، فأرسل قواته للبحث عن الألفي في الأماكن البعيدة، فوجد محمد علي الفرصة سانحة في نهاية مارس/ آذار 1804، فقام بتحريض الباشبوزق على المطالبة برواتبهم المتأخرة، كالعادة!

وبناءً على إصرار عساكر الباشبوزق وعنادهم، لعب محمد علي دور الوسيط بينهم والمماليك، وأخمد الفتنة بوعدهم بدفع هذه الرواتب المتأخرة خلال عدة أيام، ومن أجل حل المشكلة المالية الباقية من عهد الوالي خسرو باشا، فرض أمراء المماليك ضرائب على الأملاك والعقارات لمدة سنة مقدمًا، فثار السكان ضدّ البرديسي، واشتكوا كثيرًا من ذلك.

استغل محمد علي فرصة غضبهم، وأرسل بعض جنوده بجوارهم، فقالوا للأهالي: «نحن معكم، أنتم رعايا ونحن عساكر، ونحن غير راضين عن هذه الضريبة، ولن نأخذ منكم شيئًا». وكانوا يسيرون وسط الناس، وفي الوقت نفسه، ذهب محمد علي إلى الجامع الأزهر، وقال الكلام نفسه، وطيّب خاطر الناس. فمال المصريون إلى عساكر الباشبوزق، ونجح محمّد علي في جذب العلماء والوجهاء لصفه، واتحد الباشبوزق مع أهالي القاهرة ضد المماليك.

كان عثمان بك البرديسي لا يعلم شيئًا عن هذه المؤامرات فسخط على تصرفات الأهالي، وذهب إلى مصر القديمة يلعن الناس، وأرسل هو وإبراهيم بك خطابات إلى قواتهم الذين ذهبوا للبحث عن الألفي بك يستعجلونهم بالعودة إلى القاهرة فورًا، وأمروا المماليك في الأماكن المختلفة بالقدوم لنصرتهم.

فاجتمعت قوات الباشبوزق فجأةً في الأزبكية، ووزعوا أنفسهم وانطلقوا للهجوم على البرديسي وإبراهيم بك، وهاجموا منازل أمراء المماليك الآخرين ففروا، ولم يجد المماليك الموجودون في القلعة سوى الهروب عندما سمعوا بهروب أمرائهم، ونُهبت في تلك الأثناء بيوت المماليك، وقُتل كثير منهم، ووقعت كل هذه الأحداث في خلال يوم، وانهار حكم البرديسي على أيدي قوات الباشبوزق التي كان يعتمد عليها.

الإطاحة الثانية بخسرو باشا

بعد فرار المماليك أصبحت إدارة مصر تحت يد محمد علي تمامًا، لكنه لم يكن في وضع يسمح له بالتعيين من قبل الباب العالي، فكان يعرف أنه إذا جلس على مقام الولاية الآن، فسينظر إليه على أنه عاص ومغتصب للولاية، لذلك كان يريد أن يصل لهذا المنصب بشكل شرعي قبل كل شيء؛ لذلك كبح جماح طموحه، وأخذ خسرو باشا -الوالي السابق المحبوس في مصر منذ ثمانية أشهر- وصعد به إلى القلعة، وعاد هو إلى منزله في الأزبكية، وبعدها شاع خبر؛ أنّ خسرو باشا عاد من جديد إلى ولاية مصر، حتى إن كثيرًا من المشايخ ووجهاء الولاية هنؤوه بالمنصب، وهكذا، لم يكتف محمّد علي بإنقاذ خسرو باشا من يد المماليك فحسب؛ بل جعله يمتن له على إعادته من جديد إلى ولاية مصر.

كانت معظم القوات التي كان يعتمد عليها خسرو باشا من الأرناؤوط، الذين كانوا أتباع طاهر باشا المقتول، وهؤلاء كانوا ضده وحاربوه من قبل، ومع ذلك بدأ خسرو باشا مباشرة عمله، وراح ضحية لعبة جديدة، فقد كان هذا الوضع في الحقيقة، تدبيرًا مؤقتًا؛ لأن محمد علي اتفق مع خورشيد باشا محافظ الإسكندرية على توليته حكم مصر، وذهب قادة الأرناؤوط إلى خورشيد باشا، وعرضوا عليه الوضع، ودعوه لحكم مصر. فوافقهم خورشيد وذهب إلى القاهرة بعدما حافظ طوال الفترة الماضية على مركزه في الإسكندرية، وسلّمه الباشبوزق القلعة ونزل منها خسرو باشا، وأتى فرمان السلطان العثماني بإقرار هذا الوضع!

الحاكم الرسمي لمصر

بعد تولية خورشيد باشا واستتباب الوضع له، أخذ يُطارد المماليك في أنحاء مصر بالتعاون مع الباشبوزق، لكن خورشيد باشا استطاع جلب قوات الدليل التي تتكون من آلاف من القوات العثمانية من الشام لتقوية مركزه، وحينها استدار محمد علي إليه وأوقع به بالطريقة نفسها المكررة، وهي تحريض عساكر الباشبوزق للمطالبة برواتبهم المتأخرة، فأمر الوالي قوات الدليل بمواجهتهم، لكن قوات محمد علي أقنعتهم بأن مبتغاهم صرف رواتبهم المتأخرة فقط وأنهم عساكر مثلهم تابعون للدولة وليسوا خارجين عليها، فلزمت قوات الدليل الحياد.

ووجد الوالي نفسه في مواجهة عسكرية مع محمد علي، فتحصّن في القلعة، وحينها تقرّب الباشبوزق من الأهالي وشكوا لهم ظلم الوالي، ثم توجّه وجهاء ومشايخ القاهرة إلى محمد علي وطالبوه بتولي الحكم، فلم يوافق وأظهر التردد في البداية، وما لبث أن وافق تحت إلحاحهم، فأرسلوا إلى السلطان بذلك.

وأتى رسول السلطان العثماني بفرمانين؛ أحدهما يقر خورشيد في منصب الوالي والآخر يقر محمد علي في المنصب نفسه، وقيل للرسول أن يتصرف وفقًا للواقع حين وصوله؛ أي يُظهِر الفرمان الذي يؤيد الحاكم الفعلي، فلما وصل ووجد المواجهات مستعرة بين الرجلين استماله محمد علي وتقرّب إليه فأخرج فرمان ولايته، ولم يلبث خورشيد باشا أن رضخ للأمر الواقع، وتولى محمد علي حكم مصر رسميًا.

ثم دبر محمد علي مكيدة للإيقاع بالمماليك عبر الإيعاز لبعض أتباعه بالانشقاق عنه والانضمام إلى المماليك ثم الفتك بهم بالتنسيق معه، وبالفعل وقعوا في الفخ وهُزموا شر هزيمة، وضعفت قوتهم ورحلوا إلى أماكن بعيدة، لتُكلَّل مؤامراته بنجاح منقطع النظير.

# تاريخ مصر # محمد علي باشا # تاريخ

«معركة خلدة»: عن الهزائم التي تلد انتصارات
هدد بقاء الإمبراطورية: التعصب الرياضي في القسطنطينية
من «دقسة» إلى «أرسلان»: رحلة الدروز من محاربة الاستعمار للدفاع عنه

معرفة